فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيدًا منصورًا، والمسلمون معه، ووضعوا السلاح، وكانت الظهر، أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة- وهم قبيلة من يهود خيبر- فإني عامدٌ إليهم فمزلزلٌ بهم. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مؤذنًا فأذن في الناس: «من كان سامعًا مطيعًا، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة». واستعمل على المدينة ابنَ أم مكتوم، وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، رضوان الله عنه، برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار علي، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالطريق. فقال: يا رسول الله! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: «لمَ؟ أظنك سمعت منهم لي أذىً». قال: نعم، يا رسول الله. قال: «لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئًا». وتلاحق به الناس، وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله! صلى الله عليك وسلم، إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت.
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قبل بني قريظة، قد حاصر بني قينقاع وهم شعب من اليهود كانوا بالمدينة، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أُبي ابن سلول فوهبهم له.
فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا ترضون، يا معشر الأوس! أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فذاك إلى سعد بن معاذ».
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رُفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب». فلما حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار.
وكان رجلًا جسيمًا جميلًا، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين، قال صلّى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» فقاموا إليه فأنزلوه.
قال ابن كثير: إعظامًا وإكرامًا، واحترامًا له، في محل وليته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم. فلما جلس، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت». وصارت تعرّض له الأوس أن يحسن إليهم، وتقول: يا أبا عَمْرو! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
فقال رضي الله عنه: عليكم عهد الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمتُ. قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا- في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إجلالًا له- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم». قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة». وفي رواية: «لقد حكمت بحكم الملك» أي: لأن هذا جزاء الخائن الغادر- وكان سعد أصيب يوم الخندق؛ رماه رجل من قريش يقال له ابن العَرقة، رماه في الأكحل. فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أكحله. وقال سعد: اللهم! إن كنتَ أبقيت من حرب قريش شيئًا، فأبقني لها: فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهد، من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه. اللهم! وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستجاب الله تعالى دعاءه، وقدرّ عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم، طلبًا من تلقاء أنفسهم.
ثم لما استنزلوا من حصونهم، حبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة في دار، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالًا، وفيهم عدو الله حُيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأسُ القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، وسُبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم، وهذا ما ذكره تعالى من أمر بني قريظة، إثر أمر الخندق بقوله سبحانه: {وَأَنزَلَ الَّذينَ ظَاهَرُوهُم} أي: عاونوا الأحزاب، وساعدوهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: {مّنْ أَهْل الْكتَاب} يعني بني قريظة، وهم طائفة من اليهود، كان نزل آباؤهم الحجاز لما فروا من الاضطهاد وتشتتوا كل شتات في أطراف البلاد: {من صَيَاصيهمْ} أي: حصونهم وآطامهم التي كانوا فيها: {وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرُّعْبَ} أي: الخوف، جزاءً وفاقًا.
قال ابن كثير: لأنهم كانوا مالَئوا المشركين على حرب النبي صلّى الله عليه وسلم- وليس من يعلم كمن لا يعلم- وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال، لما انشمر المشركون وراحوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا؛ ولهذا قال تعالى: {فَريقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسرُونَ فَريقًا} يعني قتل الرجال المقاتلة، وسبي الذراري والنساء.
روى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عُرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكّوا فيّ. فأمر بي النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينظروا: هل أنبتُّ بعد؟ فنظروني فلم يجدوني أنبتُّ، فخلى عني، وألحقني بالسبي. وكذا رواه أهل السنن كلهم: وقال الترمذي: حسن صحيح.
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَديَارَهُمْ} حصونهم: {وَأَمْوَالَهُمْ} أي: نقودهم وأثاثهم ومواشيهم: {وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا} أي: أرضًا لم تقبضوها بعد، يعني خيبر، وقيل مكة. رواه مالك عن زيد بن أسلم. وقيل: فارس والروم، وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مرادًا. قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. قال بعضهم: يالله! ما أسوأ عاقبة الطيش! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
وهذا ما حصل لليهود في الحجاز؛ فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر، ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسدًا منهم وبغيًا. فتم عليهم ما تم، سنة الله في المفسدين، فإن الله لا يصلح أعمالهم: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَديرًا} أي: وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا بغَيْظهمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمنينَ الْقتالَ وَكانَ اللَّهُ قَويًّا عَزيزًا».
الواو للاستئناف، ومتابعة عرض الأحداث لقصة الأحزاب، بعد هذا الاعتراض بتلك التعقيبات على ما ذكر من أحداثها.
فقد ردّ اللّه الأحزاب {بغيظهم} فهذا الغيظ هو محصّلهم من هذه الغزوة التي كانوا يمنّون أنفسهم فيها بالنصر والغنيمة. فبدلا من أن يعودوا إلى أهليهم محمّلين بالغنائم، وبأهازيج الفرح والزهو، عادوا يحملون الغيظ والكمد، ويتلفعون بالخزي والذلة.
وقوله تعالى: {لَمْ يَنالُوا خَيْرًا} تأكيد لما أصاب الأحزاب من خزى وكمد، وأنه لم يكن لهم في كيدهم هذا الذي كادوا، أي وجه من وجوه النفع، بل كان شرّا خالصا، وبلاء محضا.
وقوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمنينَ الْقتالَ}. هو إظهار للمنّة التي امتنّ اللّه بها على المؤمنين يدفع هذا المكروه الذي نزل بساحتهم، وأوشك أن يشتمل عليهم، دون أن يكون منهم قتال.
وقوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ قَويًّا عَزيزًا} بيان لما اللّه سبحانه وتعالى من سلطان قاهر، وقوة غالبة. فلا يملك أحد مع سلطان اللّه سلطان، ولا مع قوة اللّه قوة.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذينَ ظاهَرُوهُمْ منْ أَهْل الْكتاب منْ صَياصيهمْ وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرُّعْبَ فَريقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسرُونَ فَريقًا}.
فى الآية السابقة بيّن اللّه تعالى، ما نزل بفريق من الأحزاب، وهم الكافرون. وهم مشركو قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب.
وفي هذه الآية. بيان لما أخذ اللّه به الفريق الآخر من الأحزاب، وهم يهود المدينة، من بنى قريظة وبنى النضير، الذين ظاهروا المشركين، أي كانوا ظهرا لهم في هذا الكيد الذي أرادوه بالنبيّ والمسلمين.
فهؤلاء اليهود، أنزلهم اللّه من صياصيهم، وأزالهم من أماكنهم التي تحصنوا فيها {وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرُّعْبَ} أي ملأ قلوبهم فزعا ورعبا، وأراهم أنهم قد أصبحوا في يد النبىّ والمسلمين بعد أن انقلب المشركون مدحورين، مذمومين.
والصياصي: الحصون التي كان يتحصن فيها اليهود، بالمدينة. وكانت حصونا حصينة، يعيش فيها هؤلاء القوم، ويجدون في ظلها الحماية من كلّ عدو يريدهم، قبل الإسلام، وفي الإسلام. وهى جمع صيصية. وبها تسمى قرون الظباء والبقر. لأنها حصونها التي تدفع بها العدو عنها.
وقوله تعالى: {فَريقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسرُونَ فَريقًا} هو بيان لما انتهى إليه أمر اليهود في هذه الغزوة. فقد مكن اللّه سبحانه وتعالى النبىّ والمسلمين منهم، فنزلوا على حكم النبىّ فيهم، فقتل من قتل، وأسر من أسر.
ذلك أنه بعد أن زايل المشركون الخندق، ورفع الحصار عن المدينة، وأمن المسلمون شرّهم، عاد النبىّ والمسلمون معه إلى دورهم، ثم إنهم ما كادوا يضعون أسلحتهم، حتى جاء جبريل إلى النبىّ يؤذن بحرب اليهود، الذين لم تعد مجاورتهم للمسلمين في المدينة مأمونة العاقبة، بعد أن صرح الشرّ منهم، وأصبحوا جبهة من الجبهات التي أعلنت الحرب سافرة على الإسلام والمسلمين.
إنهم الآن وقد سفرت عداوتهم للمسلمين لم يكن بدّ من أن يخرجوا من المدينة، أو يخرج المسلمون منها. إذ لا يستقيم للمسلمين بعد هذا الأمر، وهذا العدوّ يعيش معهم، يراقب حركاتهم وسكناتهم، ويكشف مواطن الضعف التي يدخل عليهم العدو منها.
وأذّن مؤذن النبىّ في المسلمين، بعد أن تلقّى أمر ربه، ألا يصلّى المسلمون العصر- أي عصر هذا اليوم- إلا في بنى قريظة. فسار المسلمون إلى حيث كان يتحصن بنو قريظة في حصونهم من المدينة. وكانت صلاة العصر قد دخل وقتها. فكان المسلمون على رأى مختلف في أداء الفريضة في وقتها حيث وجبت أو الانتظار بوقتها حتى يبلغوا بنى قريظة. وكان ذلك موضع اجتهاد منهم. فرأى بعضهم أن يمتثل أمر النبىّ من غير تأويل، وألا يصلّى العصر إلا في بنى قريظة، ولو تأخر الوقت إلى العشاء.
ورأى بعض آخر، أن يصلّى العصر، حين وجب وقتها، وقبل أن يخرج هذا الوقت، ودلّهم على هذا الرأى أن النبىّ صلّى اللّه عليه وسلم لم يرد بهذا الأمر إلا المبادرة والإسراع إلى حيث أمرهم، وأن الصلاة لا تفوّت عليهم هذه المبادرة.
وقد علم النبىّ بما كان من المسلمين، فلم ينكر على أي من الفريقين رأيه.
إذ كان كل منهم إنما يتحرى الخير، ويطلب رضا اللّه ورسوله. إن أحدا منهم لم يمل مع هوى، ولم ينظر إلى ذات نفسه في هذا الأمر. وإذ كان ذلك كذلك لم يكن المقصد إلا طلب الخير، وتحرّى الوجه الذي يلوح منه.
وفي طلب الخير، وتحرّى وجهه، يتساوى الذين يبلغونه، والذين لا يصلون إليه. فليست العبرة بالأمر في ذاته، وإنما العبرة بالنيّة القائمة عليه، والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: «إنما الأعمال بالنيات. وإنما لكل امرئ ما نوى». ولهذا لم يكشف النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- عن وجه الصواب في هذا الأمر الذي اختلف فيه أصحابه. إذ لا شك أن فريقا أصاب، وفريقا أخطأ. فالأمر إما صواب وإما خطأ، ولا يحتمل الوجهين معا.
ولكنّ المعتبر هنا ليس الأمر في ذاته، إذ هو شيء عارض، وإنما المعتبر هو النيّة التي تقوم وراء هذا الأمر. لأن النيّة شيء ذاتى، والذاتي مقدم على العرضي.
وقد حاصر النبي والمسلمون اليهود في حصونهم مدة، حتى إذا اشتدّ عليهم الحصار، نزلوا على حكم النبىّ. فأمر يقتل كل من بلغ الحلم من الذكور، وسبى الأطفال، والنساء، بعد أن استولى على ما كان مع القوم من سلاح.
وهكذا ذهب هذا الداء الذي كان يعيش في كيان المدينة، ويموج بالفتن فيها.
وهكذا نفت المدينة خبثها. ولبست اسما جديدا لها هو طيبة. إذ قد طابت الحياة للمسلمين فيها بعد ذهاب هذا الخبث عنها.
قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَديارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَديرًا} هو إخبار بما كان اللّه من نعمة على المسلمين بعد أن أجلوا اليهود عن المدينة.
فقد ورث المسلمون ما كان للقوم من أرض، وديار وأموال. وهذا فضل من فضل اللّه على المؤمنين، يجب أن يذكروه، ويشكروا للّه فضله وإحسانه.
وفي قوله تعالى: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها}. إشارة إلى ما سوف يورّث اللّه سبحانه وتعالى المسلمين بعد هذا، من أرض لم يطئوها من قبل. وهى تلك الأرض التي وراء حدود الجزيرة العربية، مما ستمتد إليه فتوح المسلمين، وتطلع عليه شمس الإسلام. في مشارق الأرض ومغاربها. وفي الحديث إلى المسلمين بالأرض التي سيرثونها، مع أن المخاطبين لم يرثوها بعد، وإنما ورثها المسلمون من بعدهم- في هذا إشارة إلى أن المسلمين كيان واحد، وأن ما يرثه المسلمون في أي زمان ومكان، هو ميراث المسلمين جميعا. لأن هذا الميراث ليس في حقيقته لذات أنفسهم، وإنما هو لدين اللّه الذي يجاهدون في سبيله.
وفي قوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَديرًا} تطمين لقلوب المؤمنين على مستقبل الإسلام، الذي وعدهم اللّه بنصره وإعزازه، والتمكين له في الأرض.
فإن هذا الوعد من اللّه القوى العزيز، الذي بقوته وعزته يجعل من هؤلاء القلّة من المسلمين كثرة، ومن ضعفهم قوة تنهار أمامها قوى أعظم دولتين كانتا تسيطران على العالم في هذا الوقت، وهما دولتا الفرس والروم. هذا، وفي الآية الكريمة، إشارة إلى ما أراد اللّه سبحانه وتعالى باليهود من إذلال وامتهان، فقد عرضهم سبحانه وتعالى في معرض الاستباحة والاستخفاف بدمائهم وأموالهم وإغراء المسلمين بهم. ففى قوله تعالى: {فَريقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسرُونَ فَريقًا} استباحة لدمائهم وإراقتها بغير حساب. وفي قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَديارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ} دعوة للمسلمين إلى تمكين أيديهم من هذا الذي كان في يد القوم، فالمسلمون أحق به منهم، وأولى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا بغَيْظهمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}.
عطف على جملة {فأرسلنا عليهم ريحًا} [الأحزاب: 9] وهو الأنسب بسياق الآيات بعدها، أي أرسل الله عليهم ريحًا وردّهم، أو حال من ضمير {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} [الأحزاب: 20]، أي: يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وقد رد الله الأحزاب فذهبوا.
والرد: الإرجاع إلى المكان الذي صُدر منه فإنَّ ردهم إلى ديارهم من تمام النعمة على المسلمين بعد نعمة إرسال الريح عليهم لأن رجوعهم أعمل في اطمئنان المسلمين.